الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الحضورُ الكريمُ، كُلٌّ بوصفه ومكانته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أَمَّا بَعْدُ:
فيسرني المشاركة معكم في هذا الحفل التأسيسي لجائزة الدوحة للكتاب العربي، التي تمثل حدثاً ثقافياً وعلمياً متميزاً، وأشكر، بعد شكر الله تعالى، المشرفين على الجائزة لشمولي بهذا التكريم ودعوتي لحضور هذا الاحتفال، وأود أن أتحدث إليكم باختصار عن مسيرتي العلمية ومنجزاتي البحثية، ولو أن الحديث عن النَّفْسِ أمر غير مُحَبَّذٍ، لكني أَجِدُ أنَّ من حق الجائزة عليَّ حين اختارتني أنْ أُوضِحَ ركائز ذلك الاختيار ومستنداته، ويتلخص في تأليف (36) كتاباً، وتحقيق (40) نصاً مخطوطاً، وكتابة (86) بحثاً.
أما البدايات:
فترجع إلى أكثر من خمسين سنةً خَلَتْ، فبعد أن أكملت دراسة البكالوريوس في قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة الموصل في سنة 1971م، بِتَفَوُّقٍ حيث كان تسلسلي الأول في الكلية، طَمَحَتْ نفسي إلى مواصلة دراستي، بدعم من أسرتي، وبتشجيع من أستاذي الفاضل طيب الذكر الدكتور أمين علي السيد، رحمه الله تعالى، رئيس قسم النحو والصرف في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، الذي كان منتدباً للتدريس في كلية الآداب في جامعة الموصل لمدة ثلاث سنوات، فدعاني للقدوم إلى القاهرة والتقديم إلى كلية دار العلوم لدراسة الماجستير، وتحقق ذلك في العام الدراسي 1973/1974م، ودرست في قسم علم اللغة والدراسات السامية والشرقية في الكلية.
وكان انتسابي للدراسة في قسم علم اللغة في كلية دار العلوم بداية لبناء شخصيتي العلمية وتوجيه طاقاتي البحثية، على يد أساتذة أفاضل، أخص بالذكر منهم: الأستاذ الدكتور كمال محمد بشر، أستاذ علم الأصوات، والأستاذ الدكتور محمد سالم الجرح، أستاذ علم اللغة المقارن، والأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين، أستاذ اللغويات الحديثة، رحمهم الله تعالى، فقد ارتبطتْ جميع أنشطتي العلمية: التدريسية والبحثية اللاحقة بما تعلمته في كلية درا العلوم على يد هؤلاء الأساتذة، وتركز ذلك في مسارين، الأول: مسار دراسة الرسم المصحفي والكتابة العربية، والثاني: مسار الدراسة الصوتية بجانبيها اللغوي والقرآني.
أما المسار الأول:
فكان اختيار موضوع (رسم المصحف) في رسالة الماجستير، باقتراح من أستاذي الدكتور عبد الصبور شاهين، بداية لمسار علمي طويل، ونتاج علمي غزيز، وقد حدد اتجاهه مقترح الدكتور كمال بشر بأن يكون العنوان: (رسم المصحف: دراسة لغوية تاريخية)، فدرست الموضوع من الجانب اللغوي، النطقي والكتابي، وموازنة ذلك بما أنجزه علم الكتابات القديمة (الباليوجرافيا)، وأثمر ذلك كتاب (رسم المصحف) الذي طبع في 825 صحيفة سنة 1982م، وفَتَحَتْ لي دراسة هذا الموضوع محاور فرعية مكملة للمسار الرئيسي، منها:
المحور الأول: تحقيق عدد من كتب علم رسم المصحف وضبطه.
والمحور الثاني: تأليف عدد من الكتب وكتابة عدد من البحوث، تتعلق بعلم رسم المصحف وتعليل ظواهره، ودراسة علم الكتابة العربية، وربطه برسم المصحف.
أما المسار الثاني:
فكان يدور حول التراث الصوتي العربي القديم وربطه بالدرس الصوتي الحديث، فقد كانت دراسة علم الأصوات اللغوية في كلية دار العلوم قد لفتت نظري إلى علم التجويد، ولاحظت وجود تشابه بين كثير من موضوعات هذين العلمين، لكن ثمة فجوة بين مؤلفات هذين العلمين، وبين المشتغلين بهما، وترسخت لدي قناعة بإمكانية تضييق تلك الفجوة بينهما، فكتبت بحثاً عن نشأة علم التجويد، وحققت بعض نصوص هذا العلم القديمة، وسَجَّلْتُ أطروحتي للدكتوراه بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة بغداد عن (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)، وأنجزتها سنة 1985م، بإشراف أستاذي الدكتور عدنان محمد سلمان، رحمه الله، وطبعت سنة 1986م، في 525 صحيفة.
وفَتَحَتْ لي دراسة هذا الموضوع محاور فرعيةً مُكَمِّلَةً للمسار الرئيسي أيضاً، منها:
المحور الأول: تحقيق عدد من كتب علم التجويد القديمة.
والمحور الثاني: تأليف عدد من الكتب، وكتابة عدد من البحوث، على نحو يجمع بين علم الأصوات اللغوية وعلم التجويد باعتبارهما موضوعاً لعلم واحد، ويهدفان إلى تحقيق هدف واحد، هو الكشف عن النظام الصوتي العربي، وكيفية رياضة الألسن وفق قواعده، وتخليصه من شوائب اللحن الخفي.
وأما البواعث:
فإن أعمالي العلمية التي تلت كتابة رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه كانت تستند إلى رؤية تبلورت لدي شيئاً فشيئاً، وتهدف إلى تأصيل دراسة علوم القرآن الكريم ذات البعد اللغوي، وهي تتمثل بعلم رسم المصحف وضبطه، وعلم التجويد والتلاوة، بالرجوع إلى أهم مصادر هذه العلوم، وإثرائها من خلال الإفادة من معطيات العلوم اللغوية الحديثة، مثل علم الكتابات القديمة، وعلم الأصوات اللغوية.
وقد تكون تلك الرؤية غير واضحة المعالم في بداية مسيرتي العلمية، لكن سرعان ما تكاملت واتضحت أبعادها لَدَيَّ، وكنت قد تأثرت بما كتبه الأستاذ الدكتور عبده الراجحي رحمه الله تعالى، الذي ناقشني في رسالتي للماجستير، وبَقِيتُ على تواصل معه، وأستفيد من كتبه في أبحاثي وتدريسي لطلبتي، فقد كان يسير على منهج واضح في مؤلفاته يجمع بين التراث اللغوي العربي القديم والدرس الحديث، وهو يقرر "أن الاقتصار على الدرس التقليدي غير صحيح، كما أن الاقتصار على الدرس الحديث غير صحيح كذلك". (دروس في المذاهب النحوية ص 6)، ومن ثم فإنه كان يرى "أن الاتصال بالتراث من ناحية، والاتصال بالمنهج الحديث في تطوره السريع من ناحية أخرى، واجب قومي لا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف". (النحو العربي والدرس الحديث ص 7).
وأما نظرتي إلى المنجز العلمي الذي حَقَّقْتُهُ فإني أشعر أن أعمالي العلمية قد قدَّمت رؤية واضحة في مجال دراسة الرسم القرآني والكتابة العربية، وفي مجال الدرس الصوتي وعلم التجويد، وأنَّ ما كتبته قد حظي باهتمام المتخصصين وطلاب العلم، والحمد لله رب العالمين، ومن مظاهر التوفيق في مسيرتي العلمية، أسأل الله تعالى القبول:
1. أنَّ عدداً من كتبي اعْتُمِدَتْ كمقررات دراسية في الدراسات الأولية والدراسات العليا.
2. ترجمةُ عدد من كتبي إلى عدد من اللغات.
3. كتابةُ عدد من الرسائل حول أعمالي العلمية.
4. من أوضح مظاهر التوفيق اختياري ضمن قائمة أصحاب الإنجازات العلمية المتميزة، ضمن جائزة الدوحة للكتاب العربي.
وبعد أن أَمْضَيْتُ هذا الشوط من عمري في البحث والتأليف، استجد في الساحة العلمية، في السنوات العشر الأخيرة أمران مهمان، يتعلقان بالموضوعات التي درستها، وهما:
الأول: نَشْرُ مئات من المصاحف المخطوطة، مُصَوَّرَةً تصويراً عالي الدقة، في الشبكة الدولية للمعلومات، مما لم يكن متاحاً للدارسين من قبل.
والآخر: العثور على آلاف النقوش العربية الإسلامية المبكرة في جبال الحجاز، حول مكة والمدينة وفي طرق القوافل والمنتجعات، وهو أمر أدهش الباحثين وأثار حماستهم واهتمامهم.
وقد استحوذ الاهتمام بهذين المصدرين الجديدين للمعرفة على جل أنشطتي العلمية، بقدر ما تيسر لي من وقت، وبقدر ما تسمح به حالتي الصحية، وظهر ذلك جلياً في كتاب: (علوم القرآن بين المصادر والمصاحف) (2018م)، وكتاب: (النقوش القرآنية المبكرة: دراسة في الدلالة التاريخية والظواهر الكتابية) (2021م)، وفي كتاب (المدخل إلى علوم المصحف الشريف) (2024م)، ولا يزال ميدان البحث رحباً في هذين المجالين.
وفي الختام أرجو أَلَّا أكون قد أطلت عليكم، وأرجو أني تمكنت من توضيح البدايات، والبواعث، والمنجزات، لمسيرتي العلمية، التي جعلت المشرفين على هيئة جائزة الدوحة للكتاب العربي تشرفني بالدعوة لحضور هذه المناسبة العظيمة، وشمولي بهذا التكريم.
ولا يسعني في الختام إلا أن أكرر الشكر لدولة قطر، أميراً وحكومة وشعباً، وللقائمين على الجائزة، على هذه المبادرة الرائعة التي سوف يكون لها أثر طيب في نفوس الباحثين، وبخاصة من الشباب، لإثارة حماستهم وتفجير طاقاتهم لخدمة الأمة وتقدمها.
حَفِظَ الله دولة قطر الرائدة في كثير من المجالات التي تَخَلَّفَ عنها غيرها، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدوحة
3/3/2024م = 22/8/1445هـ